الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
لم يَرِد مِنْ هذه الترجمةِ الإِشارةُ إلى مسألةِ التعجيلِ، بل هي أَوْسَع منه، وأَرَاد الآن مِنَ الصَّلاة لوقتِها أَلا تفوتَ عنه، وأوضحه الحافظُ رحمه الله تعالى. 527- قوله: (أيُّ العَمْلِ أَحبُّ) واسمُ التفضيلِ ههنا بمعنى اسم المفعول، وهو نادرٌ، والأكثر في معنى اسمِ الفاعل. 527- قوله: (الصَّلاةُ على وقْتِها) وفي لفظٍ: «الصَّلاةُ أَوَّل وقتِها» وأسقطَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى مع أَنَّه رواية ثقة لكونه مخالفًا لأكثر الألفاظ، أَمَّا زيادةُ الثقة فقال جماعة: إنها تُقْبلُ مطلقًا. وقال آخرون: بل تُقبل بعد البحث جزئيًا، فإِنْ تحقق أَنَّها صحيحةٌ تُقْبَل وإلا لا. ولا حكم كليًا، وهو الحق عندي. وإليه ذهب أحمد رحمه الله تعالى وابن مَعِيْن وغيرهما كما ذكره الزيلعي في بحث آمين. قوله: (برُّ الوالدين) أي إطاعتُهما.
كذا في أكثر الرِّوايات وفي نسخة الكُشْمِيهني إذا صلاهنَّ لوقتها في الجماعة وغيرِها. قلتُ: ولو حَذَفَ المصنِّف رحمه الله تعالى قوله: «وغيرها» لكان أحسن، لأنَّه يُشْعِر بالتَّوسِيع في أمر الجماعة، وقد يَخْطُرُ بالبَال أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى مع الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الجماعة. 528- قوله: (مِنْ دَرَنهِ شيئًا) ولا يكون مِصداق الدَّرَن إلا صغيرة، لأنَّ الكبيرة صَدَاءٌ يأكلُ الحديد أيضًا. 528- قوله: (يَمحو) والوضوءُ أيضًا يمحو الخطايا كما في الترمذي.
530- قوله: (دخلتُ على أنس رضي الله تعالى عنه) كان أنس قَدِمَ دِمشق في إمارةِ الحَجَّاجِ يشكو الحجاح إلى الوليدِ بن عبد الملك وكان هو الخَلِيفة إِذْ ذاك فما أشكاه؛ وانظر إلى هؤلاء الصحابةِ رضي الله تعالى عنهم. إذا لقوا صُفوف قَيْصَر وكِسْرَى ماذا صنعوا بهم؟ ثُمَّ إذا أوذوا مِنَ المسلمين كيف تخوروا، وهم الذين قال الله فيهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَفِرِينَ} (المائدة: 54). 530- قوله: (وهذه الصَّلاة قد ضيعت) وهو على حد قول المتنبي: تَخَالَفَ النَّاسُ حتى لا اتفاقَ لهم *** إلا على شَجَبٍ والخُلف في الشَّجَب
والمُناجَاة مِنْ كلِّ مصلَ إنَّما تكونُ في صلاةِ المنفرد؛ كما يشعِر به. قوله: (إِنَّ أحدَكُم إذا صلَّى...) الخ. فليست تلك الصَّلاةُ جماعة ليتشجع منها أحد من الشافعية رحمهم الله تعالى فيستدل به على الفاتحة، ويقول: إِنَّ الاستماعَ يُخَالِف المناجاة على أَنَّك قد عَلِمْتَ أَنَّ صَلاةَ الجماعة صلاة واحدة بالعددِ في نظرِ الشَّرْع؛ والإِمام يُناجي فيها فلا تَخْلُو عن المُنَاجَاة على طَوْرِنا أيضًا. ثُمَّ لو أَخَذْنا المناجاةَ مِنْ كل فليست هي إلا في السِّرية وأمَّا في الجَهْرِية فهي مُنَازَعة لا مناجَاة، ومخالَفة لأمرِ الإِنصات والاستماعِ؛ لا مبادرة إِلى الامتِثَال، ولم أَرَ في نَقْلٍ عن الإِمام أَنَّ القِرَاءةَ في السِّرِية لا تجوز، أَمَّا في الجهرية فأمرُها كما صرَّح به النَّص. 531- قوله: (فلا يَتْفِلَنَّ) وقد حققتُ مناطَه أَنَّه كان المُصلِّي على سَمْتٍ حسن، ولذا نَهَى عن إِقْعَاءِ الكَلْبِ، وافْتِرَاشِ الثَّعْلَب، ونَقْرِ الغراب، وبُروك الجَمَل، وأَنْ يَخْفِضَ رَأْسَهُ في الرُّكوعِ كالحمارِ، كلُّ ذلك لأجلِ كونِه على هيئاتٍ حسنة بين يدي رَبِّه، فالبُزَاق في اليمين وإنْ كان منها من أجل الملك لكن رعايته أيضًا لكون المُصَلِّي بين يدي ربِّه في هذا الحين، أَمَّا البُزَّاق أمامَهُ فهو أَشَدُّ وأشد وأَقْبحُ وأقبح. ثُمَّ إنَّ سِيَاق الحديث- «مَنْ تَفَل أَمَامَهُ في الصَّلاةِ جاء يومَ القيامةِ وتفلُه بين عينَيْهِ» أو كما قال- ليس عندي كسياق: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: 12). لأنَّ الحديثَ إنَّما سِيق بيانًا للجزَاءِ مِنْ جنس العمل، بخلاف الآية. - قوله: (اعتدِلوا) وَفَسَّرَهُ ابنُ دقيق العيد برفع العَجِيزة، ومجافاةِ العَضُدَينِ عَنِ الجنْبَين؛ ولم أَزَل أَتَفَكَّر في تفسيره، لأنَّ غايةَ ما يدلُّ عليه لفظُ الاعتدال، هو التعديل على خِلافِ نَقْرِ الدِّيك حتى رأيتُ كلامَ ابنِ العربي في العارضة فتبين منه المرادُ. وحاصله: أَنَّ الاعتدالَ لبيانِ الهيئةِ المتوسِطَّةِ بين القَبْضِ والبَسطِ، فلا يَبْسط في السجودِ بحيث يشبه بالمُسْتَلقى على وجهه، ولا يَقْبِضُ أعضاءَهُ حتى يصير كالعضوِ الواحد، ولا يَحْصُل لكل عضوٍ حظُّه مِنَ السجودِ مع ما في الحديثِ: أنَّ ابنَ آدمَ يَسْجُد على سبعةِ آراب، ولا يَتَيسر هذا إلا في الهيئةِ المسنُونَةِ فتفسيره به بهذا الطَّريق لا أَنَّه مدلولُ اللفظ. ثُمَّ إِنَّ التعديلَ المعروف أيضًا يدخُل في عمومِهِ.
والباءُ فيه للصِّلَةِ داخلة على المفعولِ به كما في قولِهم: أَخَذْتُ باللجامِ. وقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6) وقوله صلى الله عليه وسلّم قرأ بالفاتحةِ. لا للسببيةِ؛ وتَعَرَّضَ إليهما الزَّمَخْشَرِي تحت قوله تعالى: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25) وفسَّرَهُ أي افعلي فِعْلَ الهزِّ، فهو آكد من هُزي النَّخلة على معنى أَخْذِ الفعل على المعهُوديةِ بين النَّاس؛ وحينئذٍ يصيرُ لازمًا ويحتاجُ لتعديَتِه إلى الباء. فمعنى قوله هزي النَّخْلَة أي حَرِّكِيها، ومعنى قوله هُزي بالنَّخلة أي افعلي بها فِعْلَ الهزِّ الذي عَلِمَه النَّاس. ويكونُ مُسَلَّمًا فيما بينهم، ولا يكونُ كذلك إلا بَعْدَ الهزِّ بالمُبالَغة، يعني هُزِّيها حتى يقول النَّاس إنه هز، لا هزًا دون هزَ، فإِنَّه وإِنْ كان هزًّا في اللغة أَنَّهم إلا لا يُسَمُّونَه هزًا فيما بينهم، فهُزي كما هو المعروف والمعهود عندهم في هزِّ النَّخْل وهو بالمبالغة، وعلى هذا معنى قوله: «أَبْرِدُوا بالظُّهر» أي افعلوا به فِعْلَ الإِبرادِ، فيدلُّ على المبالغة لا محالة، وهكذا قولُهم: أخذتَ باللجام أي فَعَلْتَ به فِعل الأخذِ، أي أخذتَهُ بالشِّدَّة. فهذا تقريرُ المعهوديةِ المعروفة في هذه الأفعال، وأمَّا المعهوديةُ في المسحِ والقراءةِ والوترِ فكما مرَّ بيانُها وسيأتي بسطهما في مسألة الوتر. قوله: (من فيح جهنَّم) وترجمته (بهاب) فإِنْ قلت: إنَّ الحَرَّ تابعٌ للشمس في الحسِّ والمشاهدةِ فما معنى تبعيته لجهنَّم؟ قلتُ: والشمس تابعة لجهنَّم ولا يَبْعُد أَنْ يكونَ إلقاءُ القمرين فيها يومَ القيامةِ لهذه المناسبة، والوجه المعروف وإلقاؤهما مشهور. وتفصيلُ المقام أَنَّ الأَسبابَ إمَّا ظاهرة أو معنوية والأُولَى معلومةٌ بالحسِّ والمشاهدةِ لا حاجةَ إلى التنبيه عليها، وإنَّما تدلُّ الشريعة على أسبابٍ معنويةٍ غير مدرَكة بالحسِّ، وهو الذي يليقُ بشأنِها، فدلَّت على أنَّ معدن الخير والسرور كلها هو الجنَّة، ومعدن المهالك والشرور كلها هو جهنَّم، فالخِزَّانة هي في الجنة والنَّار، وهذه الدارُ مركبة من أشياء المعدنين وليست بخِزَانة في نَفْسِها، فالحرارَة وإِنْ كانت في النَّظرِ الحسي مِنْ أَجْلِ الشمس، إلا أنَّها في النظر الغَيْبي كلها من معدنها، فإِذا رأيتهما أينما كان فهي من معدنها. فإِنْ قُلْتَ إِنَّ الصيفَ والشتاءَ إذا دارا على النفسين، فينبغي ألا يكون شتاءً عند نفسِ الصيف وبالعكس مع أنَّهما يجتمعانِ في زمنٍ واحدٍ باعتبارِ اختلافِ البلاد. قلت: ولعلَّ تَنَفُّسها بحرِّها من جانب وإِرْسَالها إلى الآخر، فإِذا تَنَفَّس مِنْ جانب صارَ شتاءً وإلى جانب صار صيفًا؛ ولعلَّ الحرَّ والبردَ كيفيتان لا تتلاشيان أصلا بل إذا غَلَب الحرُّ دَفَعَ القَرِّ إلى باطنِ الأرض، وإذا غلب القَرُّ دَفَع الحرَّ، إلى باطنها، لا أَنَّ إِحدى الكيفتين تَنعَدِم عند ظُهورِ الأخرى، وهذا كما في الفَلْسَفَة الجديدةِ أَنَّ الحركاتِ كلَّها لا تَفْنَى بل تَنتَقِل إلى الحرارة. والأصوات كلُّها مِنْ بدء العالم إلى يومِنا هذا موجودة عندهم في الجو فالشيء بعد ما وجِدَ تأَبَّد عندَهم. وأَمَّا عند اليونانيين: فلا حَرارةَ عندهم في الأجسامِ الأثيرية ولا بُرودة. تحقيق لطيف في حديث الإِبراد واعلم أنَّه عُلِّل الإِبراد بفيح جهنَّم فأشعر بكراهةِ الصَّلاة قَبْلَ الإِبرادِ، لأنَّ التسجيرِ مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، ولذا لا تسجر يوم الجمعة. وعند أبي داود مرفوعًا وصحح أبو داود إرسالَه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كَرِه الصَّلاةَ نصفَ النَّهارِ إلا يوم الجمعة، وقال «إنَّ جهنم تُسْجَر إلا يوم الجمعة». انتهى. ولذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى إِنَّ النَّوافِل تصح يوم الجمعة عند نصف النَّهار أيضًا. فإِنْ قلتَ: إنَّ التَّسْجِير ينتهي بالزوالِ فلا كراهة بعده. قلتُ: ولكن يَبْقَى الفيح وإِنِ انتهَى التسْجِير، ولذا أُورِد الحديث: بلفظ «الفيح» وهو أيضًا أَثَر مِنَ التَّسْجِير فلا ينبغي المواجهة عند غضبه تعالى، لأنَّه تعرض لصلاته بالرَّد. والحاصل: أَنَّا إِنْ نَظَرْنَا إلى التعليل فإِنَّه مُشْعِر بكراهَةِ الوقتِ، وإِنْ ذهبنا إلى عدمِ كراهتِه فلا يَرْتَبط به التعليل، لأنَّه ينبغي أَنْ يكون بأمرٍ حسي نحو قوله: فلا تتحملوا مشقةَ الحرِّ، ليكونَ إشارة إلى أَنَّ أمرَ الإِبرادِ للشفقةِ لا لمعنى في الوقت، بخلافِ الإِحالة إلى حهنَّم، فإِنَّه يوجِّهُ الدهنَ إلى كراهةٍ شرعية لا محالةَ، فإِنْ كان الأمرُ بالإِبراد على الشفقة، فلا كراهة في الصَّلاة بعد الزوال، وإنْ كان لمعنى شرعي ففيها ذلك. والذي يتبين أَنّ ما هو من آثارِ الغضبِ هو التَّسْجِير دون الفيح، ولهذا المعنى نُهِيَ عن الصَّلاة عندما يستقِل الظِّل بالرمحِ، كما يدل عليه ما أخرجه مسلم: ثُمَّ اقْتُصِر عن الصَّلاةِ فإِنَّ حينئذ تَسْجُر جهنَّم، فإِذا قِيل الفيءُ فصلِّ. انتهى. وفي حديثِ البابِ إحالة على الفيح دون التسجير، ولعلَّ الفيحَ من آثارِ الرحمة، لأنَّه من أَثَرِ تنفسِ جهنَّم، فلو كان الفيحُ من آثارِ الغضبِ، لَزِمَ أَنْ يكونَ موسمُ الصيف كلُّه أثرًا للغضب، فإِنَّ الصيفَ كلَّه من أجل فَيْحِ جهنم، وحينئذٍ لا تكون في الصَّلاةِ بعدَ الزوال كراهة أصلا، وإِنَّما أُمِرنا بالإِبراد شَفَقَة ورحمة. وحاصلُ التعليل: أَنِ اربعوا على أنفسكم فلا تصلوا في شِدَّةِ الحرِ التي تكون من أجل الفيح، فالتعليل بالحقيقة بشدة الحر وهو أمرٌ حسي فيكون مُشْعِرًا بكونِهِ للشفقة كما قررنا. أما قوله: «مِنْ فيحِ جهنم» فبيان للسبب الغَيْبي للحرَارة، ولا دَخْلَ له في التعليل، ويؤيدهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم صلى بعد الزَّوالِ وقال: «ويفتح عند ذلك أبوابُ السماءِ فأُحِبُّ أَنْ يَصعَد لي فيه عَمَل» أو كما قال. فدلَّ على انتهاءِ أَثَرِ التسجيرِ بالزوال، وعدمِ كراهةٍ بعده، وأنَّ أَمْرَ الإِبراد لأجلِ الشفقة فقط. فإِنْ قلتَ: إذا كان في الصَّلاةِ عند التَّسجيرِ تعريضٌ لها بَرَدّها لكونِه مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، فكيفَ بصلاتِهِ صلى الله عليه وسلّم عند رؤيةِ آثارِ الغضب، فإِنَّه كُلَّما كان يَرى مَهْيَعة بادرَ إلى الصَّلاةِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ السنةَ عند غضبه تعالى، هو الالتجاءُ بالصَّلاة. قلت: فهذه حالات قد تكون بالصَّلاةِ عند السُّخْطِ تعريض لها بالرَّد، وقد تكونُ بفعلها التجاء إليه، وهكذا هو في الدنيا، قد تكونُ عاقبةُ العبدِ بالانسلالِ عن مواجَهةِ مولاه، وقد تكونُ بالخدمةِ له والتملقِ إيَّاه، فقسم النبي صلى الله عليه وسلّم ههنا أيضًا على الحالات، فما كان من آثار غضبهِ كل يومٍ رأَى الملجأ منه بعَدَمِ المواجهةِ في ذلك الوقت، والتنكبِ إلى جانب، وما كان نادرًا لم يَرَ منه ملجأً إلا إليه، فهذه حالاتٌ تَشْهَدُ بها الفِطرَة السليمة. ثمَّ اعلم أنَّ حديثَ الإِبرادِ حَمَله الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى على معنىً آخر، نقله الترمذي ما نصه: وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إنَّما الإِبرادُ بِصلاةِ الظهرِ، إذا كان مسجدًا ينتابه أهله من البعد، فأما المصلي وحده، والذي يُصَلِّي في مسجد قومِه، فالذي أُحِبُّ له أَنْ لا يُؤخِّر الصَّلاة في شدة الحرِّ. انتهى. ولم يرض الترمذي بهذا التأويل مع كونِه شافعيًا، ولم يصرِّح بخلافِه مع إمامه في موضع من كتابه إلا هذا، فقال: قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر- وهم الحنفية رضي الله عنهم- في شدَّةِ الحرِّ هو أولى وأشبه بالاتباع. وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى أَنَّ الرخصةَ لمن ينتابُ مِنَ البُعدِ وللمشقة على الناس فإِنَّ في حديث أبي ذرٍ ما يَدلُّ على خلافِ ما قال الشافعي رحمه الله تعالى- قال أبو ذر رضي الله عنه: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في سفرٍ فأَذَّنَ بلال رضي الله عنه بصلاةِ الظُّهر فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «يا بلال أَبْرِد ثُمَّ أبرد». فلو كان الأمرُ على ما ذهبَ إليه الشافعي رحمه الله تعالى، لم يكن للإِبرادُ في ذلك الوقت معنىً، لاجتماعهم في السفرِ، وكانوا لا يحتاجون أنْ ينتابوا من البُعد. انتهى. وقال الطحاوي: إنَّ تعجيلَ الظهرِ قد كان يُفعَل ثُمَّ نُسِخَ، وأَخْرجَ عن المُغِيرَةِ بن شُعْبَة قال صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم صلاةَ الظُّهرِ بالهَجِير، ثمَّ قال: «إِنَّ شدَّة الحرِّ من فَيحِ جهنَّم، فأبردوا بالصَّلاةِ» فأخبر المُغِيرَة في حديثه هذا، أَنَّ أَمْرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم بالإِبرادِ بالظُّهر بعد أَنْ كان يُصلِّيها في الحرِّ. وفي «التلخيص الحبير» أنَّ الترمذي سأل البخاري عن حديث المُغِيرة فصححه، فَعُلِم أَنَّ الإِبرادَ هو الآخر فالآخر مِنْ فِعْلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وما احتجوا به مِنْ أحاديث التعجيل، إمَّا منسوخٌ أو محمولٌ على الشتاء، لِمَا روى أنسُ بنُ مالكٍ قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم إذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصَّلاةِ، وإذا اشتدَّ الحرُّ أبردَ بالصلاةِ ومثلُه عن أبي مَسْعُود. قال الطحاوي: وهكذا السنَّة عندنا في صلاةِ الظُّهر على ما يذكُرُهُ ابنُ مسعود، وأنس رضي الله عنه من صلاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأَخْرَجَ أبو داود عن الأسودِ أَنَّ عبدَ الله بنَ مسعود قال: كانت قَدْر صلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم في الصيفِ ثلاثة أَقْدَام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام. انتهى. وأوَّلَه الخَطَّابي فحمله على اختلاف الفُصولِ، فقال: وأمَّا الظِّل في الشتاء، فإِنَّهم يذكرون أَنَّه في تشرين الأول، خمسة أقدام وشيء، وفي كانون سبعة أقدام أو سبعة أقدام وشيء؛ فمعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه عنده: أَنَّ قَدْرَ صلاتِه صلى الله عليه وسلّم في الشتاء خمسةُ أقدام إلى سبعةِ أقدام، يعني به خمسة أَقْدَام في تشرين الأول وسبعة أقدام في كانون. وهو عندي محمول على التَّارَات والأحيان دون الفُصول، فتارةً صلاها على الخمسة، وتارةً على السبعةِ ولو في فَصْل. والله تعالى أعلم.
539- قوله: (حتى رأينا فَيْءَ التُّلُولِ) وعند البخاري في الأذان حتى ساوى الظلُّ التُّلُول، وهذا يدلُّ على أَنَّ وَقْتَ الظُّهر يَبْقَى إلى المِثلين لأنَّ التُّلُول في الغالبِ تكونُ منبطحة ولا تكون شاخِصَة فلا يَظْهرُ لها ظِلٌّ إلا بعد غاية التأخيرِ، فالمساواةُ لا تكونُ إلا بالمِثلين. وأقرَّ النَّووي بأَنَّه دالٌّ على التأخير الشديد، وأجابوا عنه بأَنَّه محمولٌ على الجمعِ في السفر. قلتُ: وهذا غيرُ نافذ، لأنَّ الجمعَ الوقتي لم يثبت عندنا أصلا، فهو مِنْ بابِ البِنَاءِ على ما ليس بثابتٍ، ثُمَّ إنَّه ليس بحجة للحنفية أيضًا، لأنَّ الراوي لم يَرْوِ بالمساواة حقيقتها، وتحديدِ الوقت بها، وتعليمِ مسألة المِثل والمِثلين منها، بل هو بصددِ بيان شِدَّةِ تأخيرهِ في ذلك اليوم، فبالغ فيه وعبره بالمساواة والتعبيرات اللاتي تَخْرج في سِياق المبالغةِ، لا تكون مدارًا للمسألة عندي، كالأوصافِ التي أُجريت مَجْرَى المدْحِ أو الذمِّ، ومِنْ هذا الباب ما وقعَ في أشعارِ بعضِ العلماءِ من نحو تعميم في علم النبي صلى الله عليه وسلّم فتمسكَ به بعضُ من لا عِلْمَ له على كونِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم عالمًا للغيب كُلاًّ وجزءًا، ولم يَقْدِرُوا أَنْ يُفَرِّقوا بين بابِ العقيدة، وبابِ المدح، فإِنَّ المبالغاتِ تُسْتَحْسَن في النوع الثاني دون الأَوَّل، وهكذا بابُ الوعدِ والوعيد، تجيء فيها العبارات مرسلَة عن القُيودِ والشُّرُوط، وهو مُقْتَضى الحالِ فيهما، إلا أَنَّ الجاهلَ يهدِرُ هذه الدَّقائِق فيحملهما على الإِطلاقِ، ثُمَّ يضطرُّ إلى خَرْقِ الإِجماع ومخالَفةِ النُّصوصِ والسُنَّة، فنعوذ بالله مِنَ الجَهْل.
قوله: (الهَاجِرَة) سمي به لأَنَّ الطُّرُق تُهْجَرُ في هذا الوقتِ. 540- قوله: (إِلا أخبرتُكم ما دُمْتُ في مقامي هذا). 541- قوله: (وأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَه) وعند أبي داود في باب وَقْتِ صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلّم وكان يُصلِّي الصُّبح وما يَعْرِفُ أحدُنا جَلِيسَه الذي كان يَعْرفُه وكان يَقْرأ فيها الستين إلى المائة. فليحرره فإِنَّ بينهما تضادًا صراحةً، وليس هذا سهوًا من الكاتب، فإِن كان فَمِنَ الراوي، والظاهر أَنَّ الصَّواب ما عند البخاري، لأنَّ هذا الحديث أَخْرَجَهُ مسلم أيضًا بذلك السند، وفيه: «فيصرف الرجلُ الرجلَ فينظُر إلى وجهِ جليسهِ الذي يَعْرِفه فيعرفه»- فهذه القصة بهذا الإِسناد مروية عند الشيخين، وأبي داود، وليس اللفظُ المذكورُ إلا عند أبي داود فهو إمَّا وَهْمٌ مِنْ أحدِ رواته وهو الظاهر، أو من النَّاسخ. 541- قوله: (وأحدُنا يَذْهَبُ إلى أَقْصَى المدينةِ رَجَعَ والشمسُ حية) والمتبادر من لفظِ الرُّجوعِ أَنَّه المرادُ من المسافة إيابًا وذهابًا، فيدلُّ على شدِّةِ التعجيلِ، والصوابُ أَنَّهما مسافة من جانبٍ فقط، كما تدل عليهِ الرِّواية الآتية في الباب الآتي، وفيها: «فيأتيهم والشمس مرتفعة». وتأويلُ الرجوع أَنَّه رجوع إلى أَهلِهِ في أَقْصَى المدينةِ لا إلى المدينةِ كما هو بَعْدَ عدةِ أحاديثَ مصرحًا في حديث سَيَّار: ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أَقْصَى المدينة والشمس حية. فتحقَّقَ أَنَّ تلكَ المسافة من جانبٍ واحد فقط، لا كما كان يُتوهم مِنَ اللفظ الأول. وقال الطحاوي إنَّه يَدُلُّ على التأخير مكان التعجيل، فإِنَّ الرَّاوي لم يستطع بيان تأخيره إلا بأْنَّ الحياةَ كانت باقية في الشمس، ولم تكُن ماتت بالكُلِّية، فهذا سِياق في التأخيرِ لا في التعجيلِ كما فهموه. على أَنَّ الخِلافَ فيه خلافُ الأفضليةِ كما في الظُّهْرِ في تعجيلها وتأخيرها، وكما في التَّغْلِيس. فذهب الإِمامُ الشافعي رحمه الله تعالى إلى التَّعْجِيل في الكُلِّ «غير العشاء، مشيًا على العمومات والإِطلاقات، كقوله صلى الله عليه وسلّم في جوابِ سائلٍ أَيُّ الأعمال أفضل: قال: الصَّلاةُ لأَوَّل وقْتِها». وأَخَذَ الحنفيةُ بخصوص سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رويت في صلواته فقسموها على تلك الأوقات، وهو صَنيعُنا وصنيعهم في مسألة الفاتحة، فإِنَّهم تمسَّكُوا بعمومِ قوله صلى الله عليه وسلّم «لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ». ونحن نَزَلنا إلى الخصوصِ، فتمسكنا بقوله: «إذا قرأ فأنصتوا» وأنت تعلم أَنَّ التَّمسكَ بالخصوص أَوْلَى وأقوى، وهو الأوجه فإِنَّ النُّزول من العمومات إلى الخصوص هو السبيلُ الأقوم. 542- قوله: (فسجدْنَا على ثيَابِنَا) وهذا يُفيدنا في مسألة جواز السُّجود على الثياب مطلقًا، وعلى الشافعية رحمهم الله تعالى أَنْ يحملوه على الثِيَابِ المنفصِلَةِ دون الملبوسة.
قد مَرَّ أَنَّ أمثالَ هذه الألفاظ تُشْعِرُ بأَنَّه اختار في الجمع مسلك الحنفية، ولذا عُبَّر بتأخير واحد إلى الآخر مع أَنَّ أبا داود قد صَرَّح أَنَّه لم يَثْبُت حديث في جمع التقديم ومع هذا ذَهَبَ إليه بعضٌ من الأئمة. 543- قوله: (صلَّى بالمدينة) وهذا الحديثُ صريحٌ فيما رامه الحنفية من الجَمْع فعلا، فإِنَّه صلى الله عليه وسلّم جَمَعَ في المدينةِ، ولم يكن سفر ولا مطر، فلا بُدَّ أَنْ يكون الجمعُ فعلا فقط. وعند مسلم قال سعيد: فَقُلْتُ لابنِ عباس ما حمله على ذلك؟ قال: أَرَادَ أَلا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وأَصْرَح منه ما عندَهُ عن أبي الشَّعْثَاء. وهو جابرُ بنُ زيدٍ تلميذ ابن عباس راوي الحديث. قلت: يا أبا الشَّعْثَاء أَظُنُّه أخَّر الظهر، وعَجَّل العصر، وأَخَّر المغرب والعشاء، قال: وأَنَا أظنُّ ذلك، فلم يكن الجمع وقتًا. ثمَّ هو مصرح عند النَّسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نفسه قال: صَلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا، أَخَّر الظهر وعجَّل العصر، وأَخَّرَ المغرب وعَجَّل العشاء. انتهى. وحينئذٍ لا يحتاج إلى القولِ بالنَّسْخ، كما اختارَهُ جماعة في تأويلهِ، وحَمَلَهُ النَّووي على المَرَضِ وقوَّاه. قلتُ: والعَجَبُ منه كيف حَمَلَهُ على المَرَضِ فإِنْ كان النبي صلى الله عليه وسلّم جَمَعَ بينهما لأَجْلِ المرض، فهل كان القومُ جملتهم مَرْضَى فجمعوا بينهما؟، على أَنَّ الغَرَض مِنْ عدمِ الخوفِ والسَّفرِ ليس انتفاء هذين فقط، بل المقصودُ انتفاء الأعذارِ مطلقًا، ولذا وَرَدَ في بعض ألفاظِهِ ولا مَطَر؛ ولو سلَّمْنَاه فما معنى قوله: أَرَاد أَلا يُحْرِجَ أمته؟ فإِنَّ الواجبَ عليه أَنْ يقول: إِنَّما جُعِل لأجلِ المرض، وأَقَرَّ الحافظُ رحمه الله تعالى أَنَّ الجَمْعَ فيه على نظر الحنفية، وفي كتاب الصلاة للحافظِ شمس الدين السَّخاوي: أَنَّ وفدًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فَجَمَعَ بين الصَّلاتين لأجلهم في المدينة، وهذا صَرِيحٌ في أَنَّ الجَمْعَ لا للمرض كما أَوَّل به النَّووي. 543- قوله: (فقال أيوب: ولعلَّهُ في ليلةٍ مَطِيرَةٍ) ولعلَّ هذا الاحتمال من راوٍ تحته، وإلا فقد عَلِمْتَ مِنْ مسلم أَنَّ ما فَهِمَهُ تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما هو الجَمْعُ الصُّوري، كما ذهب إليه الحنفية، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ ما في البخاري احتمالا مِنْ راوٍ آخر في ابتداءِ السند.
ولقد عَلِمْتَ الخِلافَ فيه، أَمَّا الخلافُ في الاستحباب فَذَهَب الحنفيةُ إلى استحباب التأخيرِ، وهو ظاهرُ القرآن، واستدلّ به العيني، وأَظُنُّ أَنَّ أصله من الحافظ قُطْبِ الدين الحلبي أو من الحافظ علاء الدين الحنفي شيخ شيخ الحافظ رحمه الله تعالى. قال تعالى: {فَسَبِّح بحمدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وقَبْلَ الغُروب} (ق: 39) فجعل الفَجرَ قَبْلَ الطُّلوع، والعصر قَبْلَ الغُروب، ومعلومٌ أَنَّهم لا يمادون في العْرْفِ بطلُوعِ الشَّمس وغُرُوبِها، إلا ما كان أقرب إليه، فإِذا قلت: آتيك قبل الغروب، ثُمَّ أتيته بعد الطُّلوع تعد غَمْرًا وجاهلا، وإنْ كنت صادقًا في قولك فإِنَّك إذا جئت بعد الطُّلوعِ، فقد جئت قَبْلَ الغروب لا مَحَالة، وما ذلك إلا لأنَّ هذا التعبيرَ عندَهُم للإِتيان قُبَيل الغروبِ، فلا يَنتظرونَكَ إلا في هذا الوقت، فلو كان العصرُ بعد المِثْلِ الأوَّل لم يلطف قوله: «قبل الغروب» كما لَطَف إذا صليتها قُبيل الاصفرار والشمس حية، فكأنَّه لم يَبْقَ بعدَها إلا الغروب. ويؤيدُه النَّظَر الفقهي أيضًا، لأنَّ الشريعةَ قد نَهَتْ عن التَّطوعِ بعد هاتينِ الصَّلاتَين فلا صلاةَ بَعْدَ الفَجْرِ حتى تَطْلُع، ولا صلاةَ بعد المغرب حتى تَغْرُب الشمس، ففي تأخيرهما توسيع في التطوعاتِ، وفي التَّعجِيل تضييق لها. وأَخْرَج الطَّحاوي عن أبي قِلابة أَنَّها سُمِّيت العصر، لأنَّ سبيلها أَنْ تَعْصِر. فَدَلَّ على التأخير وعلى أَنَّ الأوقات متروكة على العُرف عندهم، ولا تحديد فيها فوقه. وعن عُمر كَتَبَ إِلى عُمَّالِه: «صلُّوا العصرَ والشمس مرتفعة بيضاء نَقِية قَدْرَ ما يسيرُ الراكب فرسخين أو ثلاثةً». وعن أَبي هريرة أَنَّه لم يُصَلِّ العصرَ حتى رأينا الشمسَ على رَأْسِ أَطْوَل جبلِ المدينة، وهو الوقت الذي ذهب إليه الحنفية. 544- قوله: (والشمسُ لم تَخْرُج من حُجْرَتِها) قال الطحاوي: إنَّ الشَّمسَ لم تكن تَخْرج من حُجْرتِها إلا بقرب غروبِها لقصر حجرتها، فلا دَلالة فيه على التعجيل. وَرَدَّ عليه الحافظُ رحمه الله: بأَنَّه قد عُرِفَ بطريق الاستفاضة، أَنَّ حُجُرَهنَّ لم تكُن مُتَّسِعَة، ولا يكون ضوءُ الشمسِ باقيًا في قَعْرِ الحُجْرة الصغيرةِ إلا والشمس مرتفِعَة، وإلا متى مالت جدًا ارْتَفَع ضوؤها عن قَاعِ الحُجْرَةِ ولو كانت الجُدر قَصِيرة. وَرَدَّ عليه الحافظُ العيني وقال: لا فَرْقَ بين الحُجْرة الضيقة العَرْصة ومتسعتها بعدما كانت جدرانُها قصيرة أَنَّ الشمس لا تَحْتَجِب عنها إلا عند الغروب، وهذا الفَرْقُ إنَّما يمكِنُ عند ارتفاعِ الجُدْرَان. ثُمَّ إِنَّ سِيَاقَ حديث أنس رضي الله عنه- عند الترمذي- لا دِلالة فيه على التعجيلِ فوقَ ما أَرَدْنَاهُ ووفِقَ ما أَرَادُوه، لأنَّه كان ابتُلي بزمن الحجاج، وكان الحجاج يميتُ الصَّلوات، ويُؤَخِّر صلاةَ الظُّهر إلى وقت العصر، حتى إنَّ الصَّحابة كانوا يُصلُّون العصر إيماءً كما ذكره العيني رحمه الله. وإِمَّا أنس رضي الله عنه فلم يَكُنْ يَدْخُل في صلاته، فإِذا جاءه أَحَدٌ ممن كان صلَّى معه في آخرِ وَقْتِ الظُّهر، رآه يتهيأ للعصر فكان تعجيله لأَمانته وإلا فقد يرويه هو عند النَّسائي، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي بنا العصر والشمسُ بيضاء محلقة. فَفَكِّرْ في لفظ التحليق، هل يفيدُ التأخير الذي أَرَدْنَاه أو التعجيل الذي أَرَادُوه؟. 547- قوله: (تَدْعُونَها الأُولى) وإنَّما سُمِّيَت أُولى لِكَونِها أَوَّل صلاة أمَّ فيها جبريل عليه السَّلام، ولهذا بدأ محمد رحمه الله تعالى كتاب المواقيت من وقت الظُّهر على خِلاف دَأْبِ المتأخرين. 547- قوله: (التي تَدْعُونَها العَتَمَة) لأنَّها كانت اسمًا لها في الجاهلية، وهي العشاء في الإِسلام. 547- قوله: (وكان يَكْرَهُ النَّوم) لأجلِ خَطَرِ الفَوات. 547- قوله: (والحديثَ بَعْدَها) لأنَّ الشريعةَ أرادت أَنْ تكونَ الفاتحة والخاتمة على الخير، فاستحْسَنَت أَلا ننامَ إلا على العبادة، ولا نشتغل بعد الاستيقاظِ بشيءٍ إلا بالعبادة. 550- قوله: (فيذهَبُ الذَّاهِبُ) ... الخ. ولا بَأْسَ أَنْ تكونَ الصَّلاة ههنا بِتَعْجِيلٍ يسير، وهناك بتأخيرٍ كذلك، والفاصلة بقَدْرِ ميل. 550- قوله: (العَوَالي) تسمى العُمْرانات التي في شرق المدينة بالعَوَالي، والتي في جانب غربها بالسَّوَافِل. وحاصل الحديث: أنهم كانوا يُصلُّون العصرَ في المسجد النبوي، ثُمَّ ينتشرون إلى القرى في عوالي المدينة، فَيَأْتُونَها والشمسُ مرتفعة، وهذا لا يدلُّ على تأخيرٍ فوق ما أراده الحنفية، فإِنَّه مما يَتَيسر على طريقنا أيضًا.
واختلفوا في تفسير الفوات، فقيل: فوات الجماعة، وقيل: دخولُها في الاصفرار كما فَسَّر به الأَوْزَاعي عند أبي داود قال: وذلك أَنْ تَرَى ما على الأرضِ مِنَ الشمسِ صفراء، وقيل: الغروب. ومَنْ فَسَّرَهُ بفواتِ الجماعة، فنظره أنَّ الصَّلاةَ بدون الجماعة كأنَّها لا يُعبأُ بها عند الشرع، فإِذا فاتته الجماعة وكأنَّما فاتته العصر. والوجه عندي أنَّ الأحاديث لمَّا وردت بالوعيد على كلَ مِنْ هذه الأوصاف، جعلوها تفسيرًا للفواتِ مع أَنَّ كله مستقل برأسه، ومضمون على حياله، لا أنَّها تفسير له. وما تحقق عندي أَنَّ الفواتَ يبدأ مِن الاصفرار وينتهي بالغروب، فإِذا غَرَبَت الشمسُ، فقد فاتَت بجميع مراتبها، فهذا الفَوات هو الكامل. - قوله: (وُتِرَ أهلَهُ ومالَهُ) والموتور: هو الذي قُتل له قَتيلٌ فلم يُدْرِك بقصَاصِه ولا دِيَتِهِ. ثُمَّ قيل: ما وجه تخصيص الوتر بالعصر؟. وأجيب: بأنَّه لا اختصاصَ به، والحديثُ قد وَرَدَ في كلها في مواضعها، ويمكِنُ أَنْ يكونَ خَرَجَ على جوابِ سائلٍ، فلا يَدلُّ على التخصيصِ. قال شارحُ الجامعِ الصغير للسيوطي: إِنَّ الجماعةَ آكد في الفجر والعشاء، لكونِهما أَثْقَلُ الصَّلواتِ على المنافقين، وإِن العصر أفضلُها، وحينئذٍ يَظْهَرُ وجه التخصيص، ولابِدْعَ في تفاوت مراتب الفرض مع تساويها في وَصْفِ الفَرْضِيَّة كالجمعة، فإِنَّها آكد الفرائض كما صَرَّح به ابنُ الهُمام في «الفتح» وقد مرَّ. قلتُ: وأصابَ هذا القائل إلا أنَّه متأخر، ومثل هذا الدعوى ينبغي أَنْ ينقل من المتقدمين. ثُمَّ لا أَدْرِي أَنَّ الوعيد في فواتِ العصر لكونها أَفْضَل الصلوات كما قال هذا القائل، أو لكونِ وقْتِها مشتملا على الوقت المكروه؟ وأمَّا البخاري فلم يَحْكُم بكونها أفضل الصَّلوات وبوب بفضلها فقط، فقال: باب فضل صلاة العصر.
فَرْقٌ بين الفوات والترك: فالفوات ما لم يَكُن عن عَمْدٍ، والترك ما كان عمدًا، ولذا عُوقِبَ به بحَبْط العمل، فالحَبْط مِنْ المصائبِ التي جاءت على عمله، والوترُ من وارادات الخارج. وفي الحديث أَنَّ الأولين قصروا في صلاة العصر، وعن عليّ رضي الله عنه أَنَّ المرادَ منه سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام. قلتُ: وإذا ثَبَتَ عند مُسْلِم: «أَنَّها صلاةٌ كانت عُرضت على بني إسرائيل، فقصَّروا فيها، فإِن أتممتم فلكُم الأجرُ مرتين»- بالمعنى- فأيُّ حاجة إلى حَمْلِه على نبي من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فالأَوْلَى أَنْ يراد به مطلق الأمم، وقد فاتت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أيضًا في غزوة الخندق. وحمله الحنفية على عذر المسايفة. والشافعية رحمهم الله على عَدَمِ نزولِ صلاة الخوف. والمالكية على عدم الوضوء. والله تعالى أعلم.
554- قوله: (لا تضامُّون) وهو من الضم بمعنى لا تَزْدَحِمون. وفي رواية: من الضَيْم بمعنى الظُّلم أي لا يَحْرُم عن رؤيته أحدٌ أحدًا. وتلك الرؤية إنَّما تكون رؤيته للتجليات عندي دون رؤية عن الذات، كما اختاره الشيخ الأكبر رحمه الله، وقَسَّمَها إلى رؤية شمسية ورؤية قمرية، ثُمَّ لم يفسرها. ثُمَّ إنَّ رواية التجلي هي التي تسمى برؤية الذات؛ ألا تَرَى أَنَّكَ إذا رأيتَ اللَّهَ- جلَّ سبحانه- في منامك تقول: إنك رأيت ذاته مع أنَّك ما رأيت ذاته المباركة، بل نظرت إلى نحو تجلي فقط؟. ولا تنسب إليَّ ما لم أقله. فإِنِّي لا أُنْكِرُ الرؤية، ولكن أريدُ البحث في أَنَّ حقيقةَ الرؤيةِ هي رؤية الذات أَوْ ماذا؟ فالله سبحانه وتعالى يَتَجَلَّى لعباده يومَ الحشر على نحو ما تجلَّى لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام فقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} (الأعراف: 143) مع أنَّه كان سَأَلَهُ عن رؤية ذاتِه تعالى فتجلَّى له، وذلك لأنَّ رؤية ذاته تعالى لا تكون إلا بالتجلِّي، وفي ضمنِه تنكشف الذات أيضًا على ما تليق بشأنها، وتلك التَّجلِّياتِ لا نهاية لمراتبها، فالله سبحانَه وتعالى يَعْلَم أنَّه كيف يَتَجَلَّى، ولكن تجلِّيه هو عبارةٌ عن رؤيتِه، وقد مرَّ تقريره في أوائلِ الكتاب شيئًا في شرحِ الحديث الثاني، وهذا على مختارِ الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى. وراجع «الفتاوى للشاه عبد العزيز» رحمه الله تعالى؛ فإِنَّه تكلَّم جيدًا في هذا الموضوع. ثم إنَّه فَرْقٌ بين التجلِّياتِ ونحو الوجه واليد والعين، لأنَّ التَّجلِّيات صُوَرٌ مخلوقة- أُقيمت بين العَبْدِ وربهِ، لتعريفه إياه- وآثارٌ لأفعاله، بخلافِ الوجهِ وغيرِه، فإِنَّها من مبادىء الصفاتِ، وليست منفصلة عنه انفصال التجليات. وإنَّما عبَّر عن تلك المبادىء عن ألفاظٍ مختلفة، لاختلاف أفعالها فيما بعد، فَوَضَعَ لها أَلفاظًا كذلك تنبيهًا على هذا المعنى، وهي في الحقيقة من متعلَّقات الذات لا مغايرة عنها. وسمَّاها البخاري شؤونًا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. ومن ههنا تبين أَنَّ الاهتمام بها إِنَّما هو لكونِها دخيلا في رؤيتِه تعالى، وعند الدارقطني وقوَّاه أَنَّ النساء تحصل لهن الرؤية في العيدين، ولذا أُمِرْن أن يَحْضُرْنَ العيدين، وهو معنى قولها: «أليست تَشْهَدُ عرفة» تعني به أَنَّ المقصودَ بحضورهنَّ المُصلِّى هو الشهودُ فقط كما في عرفة، وفي الأحاديث أَنَّ بعضهم يَرَى ربه في هذين الوقتين كل يوم. 555- قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل)... الخ. وهو على حد قولهم: أكلوني البراغيث. فالواو علامة للجمع، وليست ضميرًا، والعُقْبَة، أي النَّوبة. واختلف في أَنَّهم الحفظة أو السَّياحون، والطوافون في الأرض، والذين يَطْلُبون مجلس الذكر. فإِنْ قلتَ: وليس فيه ذِكْرُ الطائفة الأخرى، الذين جاءوا في العصر. قلتُ: وهو موجودٌ مفصلا عند النَّسائي، واختصره الراوي ههنا، وراجع رواية الصحيح لابنِ خزيمةَ، ففيه ذِكْرُ السؤالِ مِنَ الطائفة الأخرى أيضًا، فلا يُقال: إنَّه لِمَ اقتصر فيه على سؤالِ الذين باتوا دون الذين ظلُّوا. وسياقه على ما أخرجه الحافظُ رحمه الله تعالى في «الفتح»: تجتمع ملائكةُ الليل وملائكة النَّهارِ في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعَدُ ملائكةُ الليل، وتثبتُ ملائكة النَّهار، ويجتمعونَ في صلاةِ العصر، فتصعَدُ ملائكةُ النَّهارِ، وتثبتُ ملائكةُ الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فهذه الرِّواية تَنْفي كثيرًا من الاحتمالاتِ، فهي معتمدةٌ، ويحمل ما نَقَصَ منها على تَقصيرِ بعض الرواة. انتهى مع تغيير. فإنْ قلتَ: إنَّه ينبغي التعاقب في المغرب مكان العصر، فإِنَّ الطَّرَف الآخر من النَّهارِ، وهو المغرب. قلتُ: وهذه اعتباراتٌ، فعدُّ المغرب ههنا من الليل، والعصر من الطرف الآخر، باعتبارِ أَنَّ النَّهار الشرعي يبتدأُ من طلوع الفجرِ، لا من طلوع الشمس، وينتهي بالعصر لا بالغروبِ، على خلافِ النَّهارِ العُرفي، والصَّلاةُ بعدها مكروهةٌ، فينسد الدفتر فينبغي أَنْ تعتبَر العصرُ آخرًا بهذا الاعتبار أيضًا. 555- قوله: (تركناهم وهم يصلون) وهل الملائكة يقتدون في الفجر أو لا؟ فلي فيه تردد ففي «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى عن سعيد بن المسيب أنَّه كان يقول: «مَنْ صلَّى بأرضٍ فَلاةٍ صلَّى عن يمينِه مَلَكٌ وعن شمالهِ ملكٌ، فإِنْ أَذَّنَ وأَقَامَ الصَّلاة صلَّى وراءه مِنَ الملائكةِ أمثال الجبال انتهى. فيمكنُ أَنْ يُقال إِنَّ اقتداءهم إذا ثَبَتَ في صلاةٍ ثَبَتَ في جميع الصَّلوات إِلا أَنَّ قولَه تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: 78) ليس بصريح في الاقتداء، لأن الشهودَ يمكن أَنْ يكون كما مَرَّ في قولها: «أليست تشهد عرفة» وقوله: «يشهدن دعوة المسلمين». ولذا بَحَثْتُ هناك أَنَّ الشهود يُطْلَق على غير الاقتداء أيضًا، وكذا قوله في الجمعة: «إذا قَعَدَ الإِمامُ على المنبر طووا الصحف وجلسوا يستمعون الذكر». لأنَّه ليس فيه ذِكْر اقتدائهم، فإِنْ كان إطلاقُ الشهودِ على مطلق الحضُور فقولهم: تركناهم وهم يصلون، ظاهر. وإِنْ كان على الاقتداء فلا يَصْدق قولهم إلا باعتبارِ الجنس يعني تركنَاهُم أي الذين ما كنَّا مقتدين بهم دون الذين اقتدينا بهم أو يُحْمَل على المَسْبُوقِ وغيرهم. قلتُ: ولي ههنا إشكالٌ آخر في عبارة البخاري وهو أَنَّه لِمَ خَصَّصَ الحديث المذكور بترجمةِ فَضْل العصر مَعَ اشتمالِهِ على فَضْل الفجر أيضًا، ثُمَّ إذا بَوَّبَ على فَضْل الفجر لَمْ يُخْرجه هناك، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فلعلَّه حَمَلَهُ على فَضْل العصر فقط، لأَنَّ حُضُورَهم في الفجر يُمْكِنُ أَنْ يكون مَحْمُولا على كونِها طرفًا من النَّهار بخلاف العصرِ، فإِنَّ الحضور فيها لِفَضْلِها في نَفْسِها لا لكونها طرفًا من النَّهار، فإِنَّ طرفه في الحس هو المغرب، فلو حضروا من أجل كونِها طرفًا لحضروا في المغرب دون العصر. فإنْ قلتَ: إذا كان التعاقبُ فيها فما نكتة تخصيص الفَجْرِ في النَّص قلتُ: لِكَونِ القراءة فيها جَهْرِيَّة فكان ذِكْرُ الملائكةِ أهم لدَلالتِه على شِدَّةِ اشتياقهم وشَغَفِهم باستماع القرآن، ولي جزم بأنَّهم يَشْهَدُون صلاةَ الجماعةِ دون المنفرد.
قال النَّووي: هذا دليلٌ صريحٌ في أَنَّ مَنْ صلَّى رَكْعَة مِنَ الصُّبح أو العصرِ ثُمَّ خرجَ الوقتُ قَبْلَ سَلامِهِ لا تَبْطُل صلاتُه، بل يُتِمها وهي صحيحة، وهذا مُجْمَعٌ عليه في العصر، وأمَّا في الصُّبح فقال به مالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله تعالى. والعلماء كافة إلا أبا حنيفة رحمه الله تعالى فإِنَّه قال: تَبْطُل صلاة الصبحِ بطُلُوعِ الشمس فيها، لأنَّه دَخَلَ وقتُ النَّهي عن الصَّلاة بخلاف غروب الشمس. والحديثُ حجة عليه. انتهى. واعلم أنَّ الشمس إنْ طَلَعت أو غَرَبَت في خلال الصَّلاة، فالصَّلاة جائزةٌ عند الثلاثة. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: تصح عصر اليوم خاصة، أمَّا الفجر فتتحول نفلا عند الشيخين. وهذا معنى ما في المتون من فسادها. وقال محمد رحمه الله تعالى: إِنَّها باطلةٌ أصلا. وفي رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أنها تصح فريضة وسبيلُها أَنْ يُمسك عنها عند الطُلوعِ مراقبًا للشمس، فإِذا رأى وقت الكراهةِ قد خرج يُتم ما بقي. والحديث يَرِد علينا إلا على تلك الرواية الشاذة. وأجاب عنه الطحاوي: أَنَّه وَرَدَ في المجانين إذا أفاقوا، والصبيان إذا بَلَغُوا، والنَّصارى إذا أَسْلَمُوا، والحُيَّضِ إذا طَهرن، وقد بقيَ عليهم من وقت الصُّبح مقدار رَكعة أَنَّهم لها مدركون. انتهى. فمعنى قوله: (أَدْرَك) أي لزمه القضاء دون البناء. والعجب من الحافظِ رحمه الله تعالى حيث رد عليه بما رَدَّ الطحاوي نفسه في كتابه، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وللبيهقي من وجه آخر: «مَنْ أَدْرَك رَكعة من الصبحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ فليصلِّ إليها أخرى». ويُؤْخَذُ من هذا الرد على الطحاوي حيث قال: الإِدراك باحتلام الصبي، وطُهْر الحائض، وإسلامِ الكافر، ونحوها، وأَرادَ بذلك نُصْرَة مذهبه في أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ من الصبح رَكعة تَفْسد صلاتُه لأنَّه لا يكملها إلا في وقْتِ الكراهة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى. مع أَنَّ الطحاوي بعد سَرْدِ جوابه أَورَدَ عليه بعين ما أَوْرَدَ به الحافظ رحمه الله تعالى ما نصه هكذا: فكان من الحجة عليهم- أي الذين أخذوا الإِدراك بمعنى اللزوم دون البناء- لأهلِ المَقَالةِ الأولى- أي الجمهور- ما قد حدثنا عن أبي هريرة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ أَدْرَكَ رَكعةً من صلاة العصرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشمسُ فقد تمت صلاته؛ وإذا أَدْرَك رَكعةً من صلاة الصبحِ فقد تمت صلاته». ففيما روينا ذِكْرُ البناء بعد طلوعِ الشمس على ما قد دَخَل فيه قَبْل طُلُوعِها انتهى. فالعجب من الحافظِ رحمه الله تعالى كل العجب أنَّه رَدَّ على الطحاوي ولم يَنْظُر إلى أنَّه رَدَّ عليه بنفسه بعد سطرين. ثُمَّ أقول: إنَّ الطحاوي ليس متفردًا فيه بل في «المدونة»: قال ابن وهب: وبلغني عن أُناس مِنْ أَهْلِ العلم أَنَّهم كانوا يقولون: إنَّما ذلك للحائِض تطهر عند غروب الشمس، أو بعد الصبح، أو النائم، أو المريض يفيق عند ذلك. على أَنَّه يمكِنُ تمشية جوابهِ على مسائِلنا أيضًا. ففي كُتبِ الأصول أَنَّ فخر الإِسلام رحمه الله تعالى والسَرَخْسي رحمهما الله تعالى اختلفا فيمن صار أهلا للصَّلاة في هذه الأوقات أَنَّه يُصلِّيها فيها أو يُمسك في الوقت المكروه. ثُمَّ يقضي بعدها؟ فقال واحد منهما أنَّه يصليها كذلك وصرَّح في «التحرير»، أنَّه ليست فيه رواية عن صاحب المذهب، فينفذ جواب الطحاوي على هذا القولِ بدون تمحل. أقول: في «الدر المختار» عن «القنية»: أنَّ رجلا لو صلَّى قبل الغروب، ثُمَّ ذهبَ بها إلى الغروب بالتطويلِ لم يُكْرَه عندنا، وهو رواية عن الشافعي رحمه الله تعالى، ومصنِّفه حنفي في الفقه ومعتزلي في الاعتقاد، فلا تُقْبَل تفرداته إلا أَنَّ هذه المسألة رأيتُها في «أصول البزدوي» لفخر الإِسلام أيضًا، فلم أجد مساغًا للإِنكار، وإِنْ كنتُ مترددًا فيها. وما اعْتذر عنه صاحب «التوضيح» بعذر الخُشوعِ والخضوعِ لا ينفع. وظاهر «الموطأ» أنَّه يصليها إذا أَدْرَكَها بتمامها قبل الغروب، لا كما في المتون أَنَّه يُصلِّيها ولو أَدْرَكَ رَكعة منها قَبْلَ الغروب، ثُمَّ يُتمها بعد الغروب. قال محمد رحمه الله تعالى في باب الرجل يَنْسَى الصَّلاة أو تَفُوتُه عن وقتها: وبهذا نَأْخُذ إلا أَنْ يَذكرها في الساعة التي نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم عن الصَّلاة فيها حين تَطْلُع الشمس حتى ترتفع وتَبْيَضَّ، ونصف النَّهار حتى تَزُول، وحين تَحْمَر الشمس حتى تغيب، إلا عصر يومه فإِنَّه يُصَلِّيها وإِنْ احمرَّت الشمس قَبْل أَنْ تَغْرُب. انتهى. والذي يظهر فيه أَنَّ الظاهر ما ذهب إليه محمدٌ رحمه الله تعالى. ولعلَّ فخر الإِسلام فرَّع على القولِ المرجوح، لأنَّهم اختلفوا في الصورَةِ المذكورة: أنَّ الكراهةَ في الفعلِ فقط، فحينئذ لو أَطَالَها إلى الغُروبِ لا تكون صلاته مكروهة. فاعلمه. ثم إني تتبعتُ مرادهم بصحةِ عصرِ اليومِ، أَنَّهم يأمرون بأدائها أيضًا أو قائلون بالصحةِ فقط. والوجدان يحكم أَنَّهم إذا قالوا بصحتها فلا بُدَّ أَنْ يحكم بأدائِها أيضًا، لأنَّه معاملة الصَّلاة فإِذا صَحَّت لا بُدَّ من أدائها ولم أجده مصرَّحًا في كتبهم. وينبغي أَنْ يكون الأمر للترغيب فقط. وقد عَلِمْتَ آنفًا أَنَّ الصحةَ فيما إذا أَدْرَكَها بتمامها قَبْل الغروب، لا كما في المتونِ، إِن أَدْرَكَ رَكعة قَبْل الغروب يُتم بعدها. فليحرر. وجملةُ الكلامِ أَنَّ الحديثَ لا يُفَرِّق بين الفَجْرِ والعصر، وظاهرهُ موافقٌ لما ذَهَبَ إليه الجمهورُ، وتفريقُ الحنفية باشتمالِ العصرِ على الوقْتِ النَّاقص دون الفَجْرِ عَملٌ بإحدى القِطعتين وتركٌ للأخرى بنحوٍ من القياس، وذا لا يَرِد على الطحاوي، فإِنَّه ذَهَبَ إلى النَّسخِ بالكُلِّية مِنْ الأحاديث التي وَرَدَت في النَّهي عن الصَّلاةِ عند طُلوعِ الشمس وعند غُروبِها، إلا أنَّ المَعْرُوف مِنْ مَذْهَبِ الحنفية خلافه، فإِنَّهم قائلون في العصر بصحتِها كما في الحديث. وذَهَبَ ابنُ حَزْمٍ إلى عكسه، وقال: إنَّ أحاديثَ النَّهي مَنْسُوخةٌ كلُّها بحديث: «مَنْ أَدْرَكَ رَكعة...» وعلى هذا لا حاجةَ إلى حَمْلِ حديث الإِدراكِ على صلاةِ النَّائم كما حَمَلَ عليه الشافعي رحمه الله تعالى بل لو تَعَمّدَه ينبغي ألا يكون عندَهُ بأْسًا فلم أَرَ جوابًا شافيًا عنه في أحد من كُتب الحنفية بعد. والذي سَنَحَ لي أَنَّ النَّاس حَمَلوا الحديثَ المذكورَ على المواقيتِ وهو عندي في حق المسبُوق، فيكونُ مفهومه على طريقهم: أَنَّ الرَّكعَة الأُخرى بعد ما طلعت الشمس أو غربت، فتجري فيه الخلافية. وأما على ما اخترتُ فمفهومه: أَنَّ الرَّكعة مع الإِمام ورَكعة أخرى بعده وكلتاهما في الوقت قَبْلَ الطلوع في الفجر، وقَبْلَ الغروب في العصر، فلا تجري فيه الخلافية المذكُورة. والدليل عليه: أَنَّ هذا الحديث وَرَدَ في أَرْبَعَةِ مَواضِع واتفق الكلُّ في الكلِّ أَنَّها في حق المَسْبُوق، واختلفوا في هذا فقط، فأَدْخَلُوه في مسأَلةِ الوقْتِ وهو عندي محمولٌ على نظائِرهِ. فالأول: الحديثُ العام الذي أَخْرَجَهُ مُسلم وغيره «فمن أَدْرَك رَكعة من الصَّلاة فقد أَدْرَك» ولا فَرْقَ بين هذا الحديث وحديث الباب، إلا أنَّه عامٌ لجميعِ الصَّلوات: الفجر والعصر وغيرهما سواء، وحديث الباب في حقهما فقط، ونُكتة تخصيصهما بالذِّكر اشتراكهما في بَعْض الأوصافِ، فلهُما دَخْلٌ في الرؤية، ولذا جمعهما الحديث أيضًا، فقال: «من صلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجنَّة». وقد جمعُهما القرآن في غيرِ واحدٍ من الآياتِ، كقوله: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (ق: 39) واتفقوا في الحديث العام أنَّه في حق المسبوقِ قطعًا لِمَا عند مسلم من طريق آخر: «مَنْ أَدْرَكَ رَكعة مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمامِ فَقَدْ أَدْرَكَ» ففيه تصريح بكونِه في حق المسبوق. وإسنادُ هذين الحديثين واحدٌ، فأمكن أَن يدَّعي أحدٌ باتحاد الحديثين، عممه الراوي تارة وخصصه أخرى، فيكون مِنْ باب اختلافِ الرواة، أو اختلاف الراوي، تارةً كذا وتارةً كذا، ويكون القيد الثابت في واحدٍ ثابتًا في الآخر، فيكون كل منهما محمولا على المسبوق بالنَّص إلا أني حملتهما على أنَّهما حديثانِ، ثُمَّ قلتُ: إِنهما في حَقِّ المسبوقِ. والثاني: ما أَخْرَجَه النَّسائي في باب مَنْ أَدْرَك رَكعة من الصَّلاة: عن سالم أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من أَدْرَكَ رَكعة من صلاة مِنَ الصَّلوات فقد أَدْرَكها إلا أنَّه يَقْضي ما فاته». وهذا صريحٌ أَنَّه في حق المسبوقِ، وفيه عن سالم عن أبيه قال: «من أَدْرَكَ رَكعة من الجمعة أو غيرِها فقد تمت صلاتُه» وهو أيضًا في حق المسبوق عندهم. والثالث: ما أخرجه أبو داود في باب يُدرك الإِمام ساجدًا كيف يصنع. وقد وقَعَ فيه الحديث المذكور قطعة منه عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا جئتم إلى الصَّلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئًا، ومَنْ أَدْرَك الرَكعةَ فقد أدرك الصَّلاة». وأخرجه ابن حِبّان في «صحيحه» فعُلِم أَنَّه صحيحٌ عنده، وحَمَلهُ النَّاس على أَنَّ الرَّكعة فيه بمعنى الركوع، والصَّلاة بمعنى الرَّكعة وهو عندي على ظاهرِه. وحاصله: أن مُدْرِك الرَّكعة يعدُّ مدركًا للصَّلاة في نظر الشرع، ومَنْ أَدْرَك ما دونها فإِنَّه لا يُعدُّ مُدرِكًا لها، وإِنْ أَدْرَكَ فَضْلَ الجماعة. والرابع: ما عند العيني عن الدَّارَقُطْني: «مَنْ أَدْرَكَ من صلاةٍ رَكعة قَبْل أَنْ يُقِيم الإِمام صُلْبَهُ فقد أَدْرَكها». فإِذا جعلوا هذه الأربعة في حقِّ المسبوق، جعلتُ حديث الباب أيضًا فيه، ثمَّ هو عندي مضمونٌ واحِدٌ، ذَكَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلّم مِرَارًا في أوقاتٍ مختلفة بطُرُق مختَلِفة، فهي إذن أحاديث لا أَنَّها حديث واحد، والاختلاف مِنَ الرواة وإِنْ أمكن فيه دعوى الاتحاد لكنه خلاف الوجدان. ثم إنَّه قَدْ ظَهَرَ عندي بعد السبر، أَنَّ الشرعَ أَقامَ لذلك بابًا مستقلا، وعَدَّ مُدرِكَ الرَّكعة مُدْرِكًا للجماعة وكان مُهمًا، ولم يتعرض في موضعٍ إلى إجرَاءِ هذا الباب في المواقيت، فلم يَظْهَر لي بعدُ أَنَّ المُدْرِك لجُزْءٍ مِنَ الوَقْتِ مُدرِكٌ للوقت عنده أم لا؟ فإِذا لم يَظْهَر هذا الباب إلا في إدراك الجماعة كيف يَسُوغُ حملُه على المواقيت؟ فلا يكون إلا في حق المسبوق. فافهمه بالتفكُّر التام. ثم ما يدلك على أَنَّه في حق المسبوق دون الوقت أنَّه تعرض فيه إلى الرَّكعة ولو جاء في الوقت لتعرَّض إليه، وإنَّما تَوَهَّمَ كونه في مسألة المواقيت من أجل قوله: «قبل أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ» فَفَهِمَ منه أَنَّ الرَّكعة قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمس مع أَنَّه يَتَعلقُ بالفعلِ على معنى: مَنْ أَدْرَكَ الصبح قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ، لا أَنَّ تلك الرَّكعة قَبْل أَنْ تَطْلُعَ كما فُهِم. ويتأتي هذا الشرح في جملة ألفاظه بلا كلفة ففي لفظ: «فقد أَدْرَكَ الصَّلاة» وفي لفظ: «فليصلِّ إليها رَكعةً أخرى» وفي معناه: «فليضف» وفي لفظ: «فليتم صلاته». فهذه كلها صادقة في حقِّ المسبوق. نعم، ههنا لفظٌ آخر أخرجَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى من البيهقي يهدِمُ الشرحَ المذكور ولفظه: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصبح رَكعة قَبْلَ أَنْ تَطْلُع الشمسُ ورَكعَة بعد ما تَطْلُع الشمس فقد أَدْرَكَ الصَّلاة» انتهى. وهذ صريحٌ في أَنَّ الحديث في الوقت لا في حق المسبوق، وأَنَّ الرَّكعةَ هي بعد طُلوعِ الشمس. قلتُ: وهذه القِطعة من «الكبرى» موجودة عندي، ولم أجد فيه ما نَقَلَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى، ثمَّ الشوكاني نَقَلَه في «النيل» عن «الفتح» وحذف حوالة البيهقي، ولعلَّه أيضًا راجعٌ إليه فلم يجدها فيه، ولذا حَذَفَ الحوالة. ولكنَّ الحافظ رحمه الله متقنٌ مُتَثَبِّتٌ في النقل عندي فلعلَّهُ يكون في نسخة منه عنده البتة. فالوجه فيه عندي: أَنَّ الحافظَ رحمه الله تعالى سها فيه، حيث نقلهُ إلى مسألة المواقيت مع أنَّه حديث آخر جاء في رَكعتي الفجر، واختصر فيه الرازي اختصارًا مخلاًّ، وهو في الحقيقةِ ليس من ألفاظِ هذا الحديث، والحديث على وجهه كما أخرجَهُ الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ لم يصلِّ رَكعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس». انتهى. وصححه الذهبي فأصلُ الحديث كان هكذا فغيروه كما ترى. والدليلُ عليه: أَنَّ هذا الحديث موجودٌ عندي بإِحدى وعشرين طريقًا: خمس في «المسند»، وخمس في الدَّارَقُطْني، وثلاث في البيهقي، وطريقان في «الصحيح لابن حِبَّان» وطريقان في «المستدرك» وطريق في «الطبقات» للذهبي، وطريق في «كبرى النسائي» وطريق في الطحاوي، وطريق في الترمذي، ومدار الكُلِّ فَتادةُ، والصحابي فيها أبو هريرة. ثم بعضهم يُصَرِّحُ فيه بمسألةِ أداء رَكعتي الفجر بعد الطُّلُوع. وآخرون يبهمون فيه، وينقلون لفظه قريبًا مما نَقَلَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى، وهؤلاء أَرَادُوا مِنَ الرَّكعةِ الصَّلاة، فالرَّكعة قبل الطلوع هي صلاة الفجر، وبعد الطُّلوع هي سُنَّة الفجر، وربما يَقَعُ التخليط مِنَ الرُّواة. ومثله يفهمه المجرب وتنبه عليه الحافظ أيضًا في «تهذيب التهذيب» تحت ترجمة عَزْرَة بن تميم وأخرجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «إذا صلَّى أحدُكم رَكعة من الصبح ثمَّ طلعت الشمس فليصلِّ إليها أخرى» انتهى. ثم قال: قال الخطيب: لا يحفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه سوى هذا، وتفرَّد عنه قتادة بالرِّواية ولم يُنبِّه عليه في «الفتح». ثم ما يَدلُّك على أَنَّه في رَكعتي الفجر دون العصرِ أنَّه ليس في أحد من طُرُقِه ذِكْر العصر، بل في كلِّها ذِكْر الفجر فقط، وذلك لأنَّه لمَّا كان وَرَدَ في سُنَّةِ الفجرِ لم يَذْكُر فيه العصر، ولو كان هذا هو الحديث العام لجاء فيه ذِكْرُ العصر أيضًا في طريق من طرقه. فإِن قلتَ: إذا كان الأمرُ كما وصفتَ من كونِ الحديثِ في حق المَسْبُوقِ فما نُكتة ذِكره. قبل أن تطلع الشمس وقبل أن تغرب الشمس. قلتُ: أمَّا أَوَّلا: فلأنَّ أواخر أوقاتِها متعينة بالحسِّ، بخلاف سائرِ الأوقات، فإِنَّه لم يَرِد فيه غير التقريب مع أنَّه قد وُقِّت بهما في القرآن أيضًا قال تعالى: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (ق: 39) فكان عُنْوَانًا لهاتين الصَّلاتين، فجاء في الحديث أيضًا تبعًا للقرآن. وأمَّا ثانيًا: فلدفع إيهامِ أَنْ يُصلِّي رجلٌ رَكعة قبل الطُّلوعِ، ورَكعة بعدَه، ويصيرُ بذلك مُدْرِكًا للصَّلاة، فَقيَّد بكون الصبحِ قَبْل الطُّلوعِ، وصرَّح أَنَّه يكون مُدرِكًا لها بإِدراكها في الوقت، ولذا لم يَقُلْ: مَنْ أدرك من الصُّبحِ قَبْل الطُّلوعِ، وإِنَّما قال: «من أَدْرَكَ رَكعة من الصبح» يعني قَدَّم الرَّكعةَ على الصبحِ، ليكونَ إشارةً إلى أنَّ صلاة الصبح قَبْلَ الطُّلوع، ولو قدَّم الصبحَ على الرَّكعة، وقالَ: مِن الصبحِ رَكعة قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ، لأوهم أَنَّ تلك الرَّكعة قَبْلَ أَنْ تطلُعَ دون الصبح. وتلك اعتبارات ونِكات. وثالثًا: فإِنَّ صلاة المسبوق عندنا على ترتيب صلاةِ الإِمام، فالرَّكعة الأخرى وإِنْ كان آخرًا حسًا، لكنَّه متقدمٌ حكمًا، فإِذا كانت رَكعة مع الإِمام قَبْلَ طُلوعِ الشمسِ حقيقةً، فَرَكعتُه الأخرى أيضًا قبلَهُ في نظر الشرع. ثُمَّ إِنْ قُلتَ: إنَّ راوي الحديث أبو هريرة وفَتْوَاهُ على وَفْقِ مذهبِ الشافعية رحمهم الله تعالى. قلتُ: إِنَّه يُرْوَى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفتواهُ كمذهبِ الحنفية كما في «مسند أبي داود الطيالسي». ثم اعلم أَنَّ فتوَى أبي هريرة قد رُوي في بعض الطُرقِ على شاكلةِ المَرْفُوعِ، وليس بمرفوعٍ في الحقيقة، ويظنُّه النَّاظِرُ مرفوعًا، وإِنَّما تنبهتُ له مِنَ البيهقي، لمَا مرَّ على شرح الطحاوي ردَّهُ عليه بفتوى أبي هريرة رضي الله عنه، وعبره ههنا بالفتوى فليحمل عليه المبهمات أيضًا. وفي «تخريج الهداية» للزيلعي: ولا يوجد هذا النقل عند غيره. أنَّ الحديثَ محمولٌ على المسبوقِ عند بعض العلماءِ كما قررتُ سابقًا؛ فهذا هو مَحْمَلُ الحديث عندي. بقي الفَرْقُ بين الفجرِ والعصرِ كما في المذهب، فليكِلْهُ إلى الاجتهاد أو إلى حديثٍ آخر، ألا تَرَى إلى ما نَقَلَهُ الترمذي في معنى الحديث: أنَّه عندَهُم لصاحبِ العُذْرِ، مثل: رجل يَنَامُ عن الصَّلاة، أو يَنْسَاها، فيستيقظُ، ويذكر عند طُلوعِ الشمس وعند غروبها. انتهى. هذا أيضًا اجتهاد، وإلا فلا دَلالةَ عليه في الحديثِ ولا حرف. فإِذا عَلِمْتَ أَنَّ الحديثَ في حق المسبوقِ عندي وفي إِدْرَاكِ الجماعةِ لا في إِدْرَاكِ الوقْتِ، وأنَّ الصَّلاةَ كلَّها في الوقت وَقْبَل أَنْ تغرب؛ فاعلم أَنَّ المراد من الغرُوب هو الغروبُ الشرعي دون الحسي. والشرعي يَمْتدُّ من الاصفرار إلى الغروب، وحينئذٍ يكونُ حاصل الحديث: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكعةً من صلاة العصر مع الإِمام قبل الاصفرار فقد أَدْرَكَ العصرَ؛ وذلك لأنَّ الوقتَ فيما بعد الاصفرار إلى الغروب وقت النافق فلا أحب أَنْ يَدْخُل في سياق التعليم، ولا دليل فيه على أنَّه لو أَدْرَك رَكعة قبل الغروب يتمها بَعْدَ الغروب ويكون بذلك مُدْرِكًا لها. 557- قوله: (إنَّما بقاؤُكم)... الخ. هل المراد منه تقاصُر الأعمار بالنَّسبة إلى كل أُمة، أو بالنسبةِ إلى مجموع الأمم؟ فالظَّاهِرُ هو الثاني. وحاصله أنَّ الدنيا مَع أَشْهُرِها وسِنِينِها وأَيَّامِها لو فُرِض يومًا واحدًا لكانت زمان هذه الأمة فيهم كما بين العصر والغروب؛ يعني به أنَّه لم يبقَ مِنَ الدنيا إلا قليل. ثم إنَّ دورةَ هذه الأمة ألف سنة كما قال الشيخُ الأكبر، والشيخُ المجدِّد ثُمَّ الشاه عبد العزيز والقاضي ثناء الله مصنِّفُ التفسير المظهري» رحمهم الله تعالى، ويؤيده ما عند ابن ماجه «إنَّ لأمتي نصف يومٍ فإِنِ استقامُوا بعدَهُ استقاموا بقية يومِهِم وإلا فيهلكون سبيل من هلك»- بالمعنى- واتَّفقوا على أَنَّ المرادَ مِنَ اليوم فيه يومَ الآخِرة {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقد شَهِدَ به التاريخ: أنَّ الداهية الكبرى التي هي فتنة التاتار، نَزَلَت بنا بعد خمس مئة سنة، فتزلزلَ بها بُنيان الدِّين إلا أنَّ الله سبحانه أتمَّ لنا ما وعدنا على رسوله، فتكاملت مدتها ألف سنة وكان الإِسلام في تلك المدة غالبًا على الأديان كلِّها شرقًا وغربًا وهي دورةُ الأمةِ المحمدية وبعدَها سلط علينا الأوروبا فَبَلَغَ حال منائرِ الإِسلام ومنابره إِلى ما ترى. والله المستعان. وحاصلُ التشبيهين في حديثي ابن عمر وأبي موسى رضي الله عنهما: أَنَّ العبرةَ عند ربك بالمجموع والخواتيم، فمن دَخَلَ في آخرِ اليوم كان كَمَنْ دَخَلَ في أوَّلهِ في إِحْرَازِ أَجْرِ ذلك اليوم، وهذا هو الأصلُ في باب الاجتماع، لأنَّ الأُمورَ التي تُدعى لها الجماعة لا يمكنُ فيها الشركة مرة واحدة، فلا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكوا فيه واحدًا بعد واحد، حتى أَنَّ مَنْ دَخَل فيها آخرًا يُعَدُّ ممَّن دخلَها أَوَّلا وإِنْ كان بينهم تفاوت في الأجور، لكنَّهم أَدْرَكوا الدعوة كلهم، فاللَّهُ سبحانه خلق الدُّنيا وسوَّى فيه مأدبة، ودعى لها دعوة، فمنهم مَنْ أَجابَ، ومنهم من صدَّ عنها، ودَخَلْنَا نحنُ في آخِرِهم وأكملنا بقية اليوم، فاستوفينا الأجرَ الموعود في اليوم كله، فكأنَّ الدنيا كلها كيوم واحد عند ربك، والمطلوبُ مِنَ الداخلينَ أَنْ يَعْمَلُوا إلى آخرِ اليوم، فَمنْ عَجَزَ عنه نَقَصَ أجرُهُ، ومَنْ قَامَ به وُفِّيَ أجرُه. ولمَّا جفَّ القلمُ بالقيراطين لمن يُعْمَل إلى الغروبِ، واتفق أنَّه استأجرنا صاحب المأدبة في آخر اليوم فعملنا إلى مُدَّته استوفينا القيراطين نحن، فنحن وإِنْ دَخَلْنَا في آخر اليوم عند النَّاس إلا أنَّا عُومِلْنَا معامَلَة الذين دخلوا أَوَّلَ اليوم على قاعدة باب الاجتماع، فبقي تقسيم العاملين وعملهم في نظرنا وأما عند ربك فالعبرة بالمجموع والخواتيم. ومن هذا الباب: «هم القوم لا يَشْقَى جَلِيسهم»، فمن دَخَل معهم كان ملَثهم في استحقاقِ الأجر رحمةً من الله تعالى، ولم يُحْرَم من الأجر، وإِنْ كان في نظرنا هو التقسيم في الداخلين، لكنَّ الله سبحانه نَظَر إلى مجموعِ العمل وعدَّ الداخل في آخره بمن دَخَلَ في أوله، ومن ههنا ظَهَرَت المناسبةُ بين الترجمة والحديثين، بأَن مُدْرِك الرَّكعة مُدْرِكٌ للصَّلاةِ في نَظَرِ الشارع، ومُدْرِك الركوع مُدْركٌ للرَّكعة عنده، ومَنْ أَدْرَكَ من الصَّلاةِ رَكعة فَقَدْ أَدْرَكَ، كمن دَخَل في آخر اليومِ فقد أَدْرَك أَجْرَ اليوم كله، وما في كتاب الإيمان أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكعَة لا يُعد مُدْرِكًا للصَّلاة، فمبْنَاه على أمر آخر، وهو نظر آخر ذُكِر في موضِعه. وإن كنتَ فَهِمْتَه فاعلم أَنَّ حديث: «من أَدْرَكَ الصَّلاة...» الخ. إنَّما وَرَدَ في باب الاجتماع والجماعة لتعليم أَنَّ الدَّاخلَ فيها إلى أي جزءٍ منها يُعَدُّ داخلا؛ فبين أنَّ المدرِكَ من أَدْرَكَ رَكعة منها وبعدها، وإِنْ أَحْرَزَ شيئًا من الأَجْرِ أيضًا إلا أنَّه لا يُعَدُّ مدرِكًا لها في نظر الشارع. ثُمَّ إنَّ الناسَ جَرُّوه إلى مسألةِ المواقيتِ، ولم يروا إلى أَنَّ إدْرَاك الوقت بجزءٍ منه بابٌ مستقل، لم يَرِد به الشرع، ولم يَتَعَرِّض إليه، فلو عَلِمْنَاه أَنَّه أيضًا بابٌ عِندهُ لعددناه من جزئياتِه، ولَحَمَلْنَاهُ عليه، بخلافِ إِدْرَاك الصَّلاة من إِدْرَاكِ الرَّكعة، فإِنَّه بابٌ مستقل أَقَامَتْهُ الشريعةُ في مواضع وتَعرَّضَت إِليه، فحملناه عليه، فإِذا علمناه بعد السَّبْر كذلك، لم يَسُغْ لنا أَنْ نحملَهُ على مسألةِ المواقيت. ثم إنَّ حقيقةَ الإِدْرَاك أَنَّها كانت على شَرَفِ الفوات فتلافاه على نحوِ تَقْصِيرٍ منه وأَدْرَكَها، كَمَنْ سابقَهُ أحد فسبقه فأَدْرَكه هذا بعد جِدَ واجتهاد منه، فهكذا حال مُدْرِك الرَّكعَة، فإِنَّ الإِمام قد سَبَقَهُ بصلاته وتَرَكَهُ خلفه فدخل هذا في الركعة، وأَدْرَكَه في عملهِ بهذا الجِدّ وعدَّهُ الشارعُ داخلا في هذا العمل، وكذلك حال مَنْ أَدْرَكَ الرُّكوع، فإِنَّه كاد أَنْ يَتَخَلف عن الأَجْرِ أي أجر تِلْكَ الرَّكعة فَجَدَّ واجتهدَ حتى أَدْرَكَ ركُوعَها فكأَنَّه أَدْرَك تلك الرَّكعة بما فيها، ولذا سقطت عنه الفاتحة مع أنَّه لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتاب، وهذا مما قد أجمعوا عليه، فالرُّكوعُ عندي آخر موضع تُحْتَسَب فيه الشِّرْكةُ. وأمَّا مركزُ الصَّلاة فهو موضِع التأمين، وهو نُقْطَةُ مَرْكَزِ الدائرة، ومجتَمع الملائكة والنَّاس. وهناك وَعْدُ المَغْفِرَة فهو مقام الجمعِ، فمقام السَّبْقِ: التحريمة، ومقام الاحْتِسَاب: الركوع، ومقام الجمع: آمين. فإِنْ شئتَ أَنْ تَعْرِفَ السابقين بسيماهم، فاحْفَظِ التحريمة تعرفهم وإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَوَسَّم المجتمعينَ مَع الملائِكَة فلا تَنْسَ مَوضِع التأمين تفوز بهم، وإنْ تُرِدْ أَنْ تَقِفَ على مَنْ أَدْرَكُوا الرَّكعَة آخرًا، فاذكر الرُّكوع تَفْرُسهم، ثُمَّ إِنْ فَاتَك التأمين فلا يَفُتك موضع التحميد فإِنَّه أيضًا موضع الوعد تلافيًا لمن فاته التأمين، وقد ورد في الخبر «أَنَّ الصدِّيق الأكبر رضي الله عنه تخلَّف مرةً عن التحريمة وأَدْرَكَ إمامه في الركوع، فأحرم بها، وقال: الله أكبر، ثُمَّ قال: الحمد لله، ثُمَّ رَكَع، فكأَنَّه كان اختصارًا منه للصَّلاة، فلمَّا فَرَغَ النبي صلى الله عليه وسلّم عن صَلاتِه أُوْحَيَ إليه أَنَّه سمع الله لمن حَمِده». فَجُعِل مكان التَّكْبِير عند الرَّفع مِنَ الرُّكوع، وقد كانوا يُكَبِّرون فيه قَبْل ذلك، فهذا نحو تَلاف فاعلمه. ثم إِنَّ ههنا بحثًا آخرِ وهو أنَّه ما الذي أُريد مما قصروا فيه وأتممناه؟ فإِن كان المرادُ منه الشريعة فقد قصَّرنا فيها أيضًا، ومنَّا أيضًا مطيعون وعاصون مثلهم، فإِنْ كان مقابلةُ أفاضل هذه الأُمة بمَنْ سَلَفَ مِنْ أَفَاضِلِهم، فلا يَصِح عدُّ أفاضلهم من المقصِّرين، وأفاضلِنا من المؤتمرين، ولَكِن الأحسن حينئذٍ أَنْ يُفَرَّق بالقِلة والكَثْرَة، فإِنَّ أفاضِلَ هذه الأمةِ أكثرُ كثير بمن مضى من قبلهم، وإن كان بين الأَرَاذِل والأراذل فَهُم في التركِ والتقْصِير سواء، مع أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لَتَّتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ قَبْلَكم شِبرًا بشبر وذراعًا بذراع» فأي أمرٍ قَصَّروا فيه وقُمنا بحقه؟ والذي يَظْهَر أَنَّه باعتبارِ مجموع الأمة، لا باعتبار الأفاضلِ، ولا باعتبارِ الأَرَاذِل. والفَرْق بقِلَّة المقصِّرين فينا وكَثْرَتِهم فيهم، على عكس المطيعين، أَمَّا حديث الاتباع بمن قبلنا فهو ساكتٌ عن بيان القِلة والكَثرة إنَّما أَرَادَ به بيانَ الاشتراك في نوع الفعل، فجاز الاختلافُ بين الكم والكيف. واحتج القاضي أبو زيد الدَّبُوسي وهو أَوَّلُ من دَوَّنَ علم الخلاف، وهو عِلْمٌ بين الفِقْهِ وأصول الفقه على مسألة المثلين، وتقريره أَنَّ قولَه صلى الله عليه وسلّم «إنَّما أجلكم... الخ» يفيد قِلَّة زمان مدة هذه الأمة بالنسبة إلى الأُمم الماضين، وزمان هذه الأمة مشبَّه بما بين العصر والمغرب، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ قليلا بالنسبةِ إلى زمانِ النَّصارَى، إلا إذا كان وَقْتُ العصر من حين صَيْرورَة الظِّل مثلَيْهِ فإِنَّه حينئذٍ يَزيد وقتُ الظُّهْر أي مِنَ الزَّوال إلى المثلين على وَقْتِ العصرِ أي من المثلَين إلى الغُروب وإِنْ كان ابتداء العصرِ من المِثل كانا متساوِيين ولم يصح قولهم نحن أكثرُ عملا. وتعقب عليه ابن حزم أَنَّ الوقتَ في المِثل يمضي أزيد من بقيةِ الأمثال كلِّها فلو كان وَقْتُ العصرِ من المِثل لبقي وَقْتُ الظُّهْرِ أزيدَ من بقيةِ الأمثال، وصحَّ قولهم نحن أكثر عملا. قلتُ: وما قالَهُ صحيح إلا أنَّ هذه الزِّيادة لا تَظْهَر إلا في نظر الرياضيين، ولا يأتي التشبيه في مثل هذه الأمورِ الغامضة التي قَلَّمَا يُدْركها أحدٌ مِنْ أَهْلِ العُرْفِ، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ في وَقْتِهم زيادة تصلح لكونها مُشَبَّهًا بها، ولا تكونُ إلا إذا زَادَ الوقتُ على المِثْل زيادة، على أَنَّ محمدًا رحمه الله تعالى إنَّما استشهدَ بهِ على مسألةِ استحْبَابِ تأخير الظُّهْرِ لا على المِثلين. قلتُ: وحديثُ ابنِ عمر رضي الله عنه عندي يحتوي على أَمْرَين مُستَقِلَّين: الأول: بيان قِلَّة زمانِ هذه الأمة بالنِّسْبَةِ إلى الأُمم السالفة. والثاني: التشبيه، وهما قِطعتان مستقلتان ليست إحدَاهُما تفسيرًا للأُخرى لِما بينهما من المُغَايَرة، تتضحُ بعدَ النَّظَرِ في سياقِهما، وقد بَلَغَ معنى القِطعة الأُولى مبلغَ التواتر، كقوله: «أنا والساعة كهاتين». فإِذا عَلِمْنَا أنَّ زمانَ هذهِ الأمة أقلّ قليل بالنِّسبةِ إلى الأُممِ وقدَّره بعضهم: بسدس النَّهار- لم يَبْقَ ريب في أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَزيدُ من المِثل، بحيث لا يَبْقَى بعدَه للعصرِ إلا بقَدْرِ السُّدس كما ذَكَرهُ ابن عابِدِين في مسألةِ أَهْلِ البُلغاء، أو بقَدْرِ خُمس النَّهار كما في «الفتح». فحديثُ التمثيل وإِنْ لم يَكُن حجة لنا إلا أَنَّ لِلقِطْعَة الأولى بعد النَّظَرِ إلى الخارجِ حجة لنا قطعًا: أَمَّا لمحمد فظاهر وأمَّا للقاضي فأيضًا ممكن. 557- قوله: (قيراطين قيراطين) والإِعرابُ فيه عندي باعتبار المجموعِ، لأنَّ المعاني المعتورة أيضًا على المجموع إلا أَنَّ كُلَّ كلمةٍ لمَّا كانت صالحة للإِعراب ظَهَر الإِعراب فيها، كما قرروا في: عبد الله، حال كونِه عَلَمًا ومضافًا إليه. 557- قوله: (هو فضل أوتيهِ من أشاء) قال المتكلمون: إِنَّ المُحال هو الترجح بلا مُرَجِّح دون الترجيح بمرجِّح، فالله سبحانه يَفْعَلُ ما يشاء، ويَحْكُم ما يريد، والمرجِّح إرادتُه ومشيئتُه، ولا حاجةَ بعدَهُ إلى مرجِّح آخر في جانب المقْدُور.
|